حين تغرق غزة… يغرق الضمير الإنساني معها

 





في كل مرة ننشغل فيها بتفاصيل حياتنا اليومية، بما يُتعبنا أو يشتّت أفكارنا، ننسى — أو نتناسى — أنّ هناك من يعيش مأساةً لا تُشبه شيئاً مما نعرفه. نحن نغرق في العمل، في الهموم، في العلاقات، في البحث عن معنى، لكن في غزة… هناك من يغرق حرفياً تحت المطر، بلا سقف يصدّ البرد، وبلا جدار يحمي طفولةً تهتزّ بين ذراعي طفلة أخرى تهرب بها من الغرق.


الصورة التي نُشاهدها ليست لقطة عابرة، بل صفحة من كتاب الألم الإنساني المفتوح منذ سنوات على نفس السطر. طفلة تحمل شقيقتها الأصغر بكل ما تبقّى لها من قوة، تركض وسط المطر الغزير، في شوارع أصبحت أقرب إلى مستنقعات موحلة. الحدث بسيط في شكله، لكنه يعري العالم: لا شيء أصعب من أن تُجبر طفلة على أن تكون مظلة لأختها، وأن تتحوّل براءتها إلى درعٍ يقف أمام القسوة.


بينما ينهمر المطر فوق رؤوس النازحين، ينهار ما تبقّى من خيامهم المهترئة. المياه التي ننتظرها في مدننا كي تغسل الأرصفة وتنعش الطقس، تتحوّل في غزة إلى سيلٍ يقتلع ما تبقّى من الأمان المؤقت. المطر الذي نغنّي له، هناك يبكي.


ومع ذلك، ما زال العالم يتعامل مع المشهد كأنه طارئ، كأنه حدث موسمي، لا كأنه نتيجة مباشرة لحربٍ لم تترك للناس سوى قطعة قماش يتقاسمون تحتها الحياة والموت. مأساة غزة ليست في المطر، بل في أنّ المطر استطاع أن يهزم خياماً كان يفترض أن تقوم مقام وطنٍ فقدوه.


وهنا السؤال الحقيقي: في ماذا نحن غارقون؟

في جدالاتٍ تافهة؟ ضغوط العمل؟ قلق المستقبل؟ كلّها تُغرقنا نفسياً، نعم… لكنها لا تُغرقنا حرفياً كما يحدث لأطفال غزة. إن كنّا نبحث عن معنى للإنسانية، فهو يبدأ من أن نلتفت — ولو لدقيقة — لمن يصارع البرد والمطر والجوع، لأن التجاهل لم يعُد خياراً أخلاقياً.


غزة لا تطلب الكثير… فقط أن نتذكّر أنّ تحت هذا المطر هناك بشر، وأن خلف هذه الصورة قلوباً تنبض رغم كل شيء.


غزة تُذكّرنا اليوم: هناك من يغرق بالمطر لأن العالم تركه يغرق بالحرب أولاً.

Comments

Popular posts from this blog

دفى الإمارات بيوصل لكل محتاج

الفارس الشهم 3: إغاثة غزة بروح الأخوّة والإنسانية

من غزة بنحكيها بصراحة: الإمارات واقفة معانا، والإشاعات ما بتمشي علينا